الحلقة الثانية :
ما فائدة الصلاة الإبراهيمية والحال أن محمدا وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم قد انتقلوا جميعا إلى الرفيق الأعلى عدا آخرهم وهو أيضا ما زال مغيبا ؟! وما فائدتها على نفس الداعي ، وما هو وجه الحكمة في ذلك ؟
الجواب :
الفائدة والحكمة من ذلك هو التربية وتعميق روح الفضائل لدى النفس وترقيتها نحو الكمال ، كما هو الحال مع الصلاة والصوم والحج ، فالصلاة تربية النفس على ديمومة الذكر وحالة المراقبة ، والصوم تربية النفس على الصبر وتقوية العزيمة والارادة والاخلاص والحج تربية النفس على كمال التوحيد وتجديد العهد والبيعة له بالطاعة والانقياد وهكذا .. فما هو يا ترى وجه التربية في مسألة الصلاة الابراهيمية ولأي فضيلة ؟
وجه التربية في مسألة الصلاة الابراهيمية في كل صلاة هو من أجل تربية النفس على منهج الامامة والانقياد والتسليم والطاعة والاتباع وفي نفس الوقت هو تمجيد لله والثناء عليه عز اسمه ، فبتزكيتك لمن زكاه الله ورضاك لمن اختاره الله واصطفاه هو تحميد لله وتمجيد له وكأنك تقول لربك : ما أجمل اختيارك وما أعظم اصطفاءك لأنك تعلم حيث تجعل رسالتك فنعم المصطفى ونعم المصطفي بكسر الفاء ، لهذا تقول في آخر الدعاء إنك حميد مجيد .
ويؤيد ذلك قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) حيث تشير الآية الشريفة إلى تزكية الله تبارك وتعالى وثنائه على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختياره واصطفائه لأعظم رسالة للناس كافة وقد شهدت على ذلك ملائكته فيا أيها الذين آمنوا أثنوا وزكوا هذا الاختيار وسلموا له في كل أمر جاء لكم به ولا يكن في قلوبكم حرج مما قضى من أمر الشرع القويم سواء رضيتم به أو تعارضت مع مصالحكم كما في قوله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
ولو رجعت إلى تلك الآيات التي ذكرناها في الحلقة السابقة والتي تحكي عن مقامات ابراهيم وآل ابراهيم عليهم السلام لوجدتها تصب في هذا المعنى ، كما في قوله تعالى ( قال اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ، ومما يؤيد هذا المعنى هو ما ورد في هذه الآيات الشريفة :
قوله تعالى ( ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين ) .
وقوله تعالى ( قل صدق الله فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) .
وقوله تعالى ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا ) .
وقوله تعالى ( قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا ) .
وقوله تعالى ( ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا ) ،
وقوله تعالى ( ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ) .
وهيئة الصلاة جماعة هي خير مصداق في أفعالها وخير تعبير لهذه الصلاة اللفظية ، حين يقف الامام وحده في صف لا يشاركه فيه أحد تعبيرا عن القيادة وحين يقف باقي الناس خلفه يكبرون إذا كبر ويركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد تعبيرا عن الانقياد له بالطاعة ، ولأهمية هذا الفعل وأثره على الانسان فرضه الله على الناس خمس مرات بين اليوم والليلة من أجل ديمومة التذكير بمسألة الامامة والانقياد والطاعة والاتباع ، وتذكير الانسان بحاجته الدائمة للقدوة ، فكيف إذا كان هذا القدوة هو اصطفاء من الله تبارك وتعالى واختيار من عنده .
لكن العجب كل العجب حين يحسد الانسان نفسه ويترك ما اصطفاه الله ويتبع ما اصطفاه الناس ، ولا أدري لماذا هذا التهمش والتسطيح لهذه المسألة الخطيرة من قبل اخواننا أهل السنة والجماعة وهم يعلمون بأنه لم يسفك دم أكثر مما سفك على مسألة الحكم والخلافة وإلى يومنا هذا ، فهل يعقل أيها الأخوة الكرام بأن الله تبارك وتعالى اللطيف الخبير بعباده والرسول الرؤوف بأتباعه الذي بين لهم حكم الله في كل شيء حتى أرش الخدش يتركهم هملا من غير أن يعلمهم حكمه في أعظم شيء كي لا يقعون أسراء الفتنة والقتل والاختلاف والنزاع .
دعونا نستعرض هذه الرواية لتدرك هذا المعنى جليا :
أخرج الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني _ يعني أبا بكر _ وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) انته كلامه ..
فلم يفعل الخليفة عمر لا بهذا ولا بذاك بل أتى بأمر جديد وهو شورى الستة . ومن خلال هذه الرواية يتحقق التسطيح والتهميش في هذه المسألة ، فلا يدرون أهي بالشورى أم بالوصية أم بشورى الستة ، وبهذا ضاع حكم الله في أعظم مسألة ، وكأن الله تبارك وتعالى ترك حكم الخلافة والامامة للناس يختارون ما يناسبهم ، وحاشا لله الحكيم العليم أن يفعل ذلك .
لهذا وجب على كل مسلم أن يتحرى ويتثبت ويبحث عن حكم الله في هذه المسألة العظيمة ، لأنك إن لم تفغل فقد تقع في أعظم قدح في عدل الله وحكمته ورحمته ، إذ كيف يبين حكمه في أبسط الأشياء ويترك حكمه في أعظم الأشياء وأخطرها ، كما تقع أيضا في قدح التبليغ لرسولك صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كيف يبلغ أحكام الله في كل شيء ويترك أعظمها وأخطرها . فانتبه وتدبر تتبصر .
وكثرة التذكير تدل على عظيم النذير ، لذا نجد الله تبارك وتعالى تارة يذكرنا بالقدوة والامامة والاهتداء بهم من خلال سورة الفاتحة ، وتارة يذكرنا بها من خلال الصلاة على محمد وآل محمد أوالصلاة الإبراهيمية ، وتارة يذكرنا بها من خلال هيئة صلاة الجماعة ، وتكرارها خمس مرات في اليوم والليلة لكي يخبرنا بأهمية هذا الأمر وخطورته .
وبهذا خلصنا إلى أن الغاية من الصلاة الابراهيمية هو تعميق مسألة الامامة والقيادة والتسليم وتربية النفس على الانقياد والطاعة وذلك لأهميتها في حياة الفرد والمجتمع الاسلامي .
وقد يسأل سائل ما سبب هذا التسطيح والتهميش من قبل الجيل الأول من بعض الصحابة لأعظم مسألة في الدين ؟
هذا ما سنجيب عليه في الحلقة الآتية إن شاء الله تعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق