الحلقة الثالثة :
وقفنا في الحلقة الماضية على هذا السؤال : ما سبب هذا التسطيح والتهميش من قبل الجيل الأول من بعض الصحابة لأعظم مسألة في الدين ؟
الجواب :
سبب التسطيح والتهميش لمسألة الامامة والخلافة من قبل الجيل الأول من بعض الصحابة هو خشية أن يفوتهم شرف الخلافة وحلاوة الأمرة وذهابها إلى بيت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وولده عليهم السلام خصوصا أنهم قد عرفوا من تلك الأحاديث الواضحة في مناسبات عديدة مثل حديث الغدير وحديث المنزلة وحديث الكساء وحديث الخلفاء من بعدي إثنا عشر وحديث إن عليا ولي كل مؤمن بعدي وحديث تبليغ سورة براءة وحديث الدار وغيرها كثير ، ولذا عملوا على التصدي لهذا الأمر بعدة محاولات خصوصا وأن الأمر الذي كانوا يخشونه قد انقطع وهو الوحي وصاحب الوحي ، فمرة بمنع رسول الله من الكتابة حينما أراد أن يوصي ، ومرة ببث شعار لا تجتمع النبوة والإمامة في بيت واحد ، ومرة بأن قريش لا ترضى به ، ومرة لصغر سنه علما بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أدخلهم في اختبار تمهيدي قبيل أن يواجهوا الاختبار الأكبر وذلك حين أوصاهم بتجهيز جيش أسامه وجعله أميرا عليهم مع صغر سنه ليخبرهم بأن صغر السن ليس علة قادحة كما تعتقدون ولكنهم لم يتحملوا تأمر الأصغر في الجيش فكيف يتحملونه في الولاية ، إنه الامتحان الصعب الذي لا يسلم منه كل من ادعى الإيمان لقوله تعالى ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ، فوضعهم على ميزان ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، لكنهم للأسف الشديد تعثروا فلم يسلموا تسليما وتعثر معهم تطبيق حكم الله في الخلافة والامامة حتى جاء من بعدهم فقهاء هذا المنهج وربطوا الحق بأفعالهم بدل أن يربطوه بأفعال المعصوم وأقواله . فثلم الدين أكبر ثلمة وزهقت بسبب ذلك أرواح مئات الآلاف عبر التاريخ الاسلامي وما زال المجتمع الاسلامي يدفع ضريبة تلك الثلمة ، ولهذا أشار القرآن الكريم محذرا الجيل الأول من هذه النكبة وهذا الانقلاب في قوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) ، كما أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى النتيجة الحتمية لهذا المنهج حين بشر بإمام آخر الزمان وهو الامام المهدي المنتظر عليه السلام حين قال فيه ( سيملأ الأرض قسطا وعدلا ، بعد أن ملأت ظلما وجورا ) ، وهذه إشارة واضحة للمتأمل بأن الأرض ستملأ ظلما وجورا بسبب هذه النكبة وهذا الانقلاب على أعظم مسألة في دين الله ، وستملأ قسطا وعدلا بالرجوع إلى تطبيق حكم الله الصحيح في الامامة ورجوعها إلى أهلها وهم العترة بعد أن هجرتهم الأمة سنين طويلة وانزلقت في تيه الخلاف والنزاع ، ولا أدري إلى متى تظل الأمة تعيش هذه الغفلة وإلى متى تنتبه وتعود إلى الحق الذي ضيعته العصبية وعقدة الانتماء .
وليس الغرض من عرض هذه الحقيقة هو النيل من الآخر أو الطعن في رموزه ولكن الانتصار للحق والبحث عنه يقتضي تحيد الحق عن أفعال الرجال وإلا تلون بتلون أفعالهم وضاعت بذلك هويته ، وما لم تنفك هذه العقدة لن نبصر الحقيقة لأننا جعلنا الحق رهينا مسجونا داخل سياج أفعال الرجال الذين يخطئون ويشتبهون .
وبما أن الحق معصوم وجب أن يرتبط فقط بأفعال المعصوم لا بأفعال غيره . لهذا نجد الله تبارك وتعالى يذكرنا بهذا الأصل في كل صلاة بقوله تعالى ( إهدنا الصراط المستقيم ) ولم يكتفي بذلك بل ربط هذا الحق وهذا الصراط بأشخاص قد بين صفاتهم وميزتهم بأنهم لا يجوز عليهم الاشتباه والضلال فضلا عن اقترافهم معصية تغضب الله فلذلك قال ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ، والآية التالية توضح لنا جليا من هم هؤلاء الذين أنعم الله عليهم وذلك في قوله تعالى ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ادم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا ) ، وهؤلاء جميعا تميزوا بثلاث خصال : النبوة والعصمة والاجتباء ، فلزم أن يكون في كل زمان رجل تتوفر فيه هذه الخصال كي يهتدي به المهتدون في مقام القدوة والأسوة الحسنة ، ويجب أن يكون هاديا لا مهتديا بغيره وإماما لا مأموما لقوله تعالى ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) ، وبما أن النبوة ختمت بالرسالة الخاتمة انتفت بذلك خصلة النبوة وبقيت الخصال الأخرى وهذا بالضبط ما أشار إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) فأثبت ما لهارون من خصال عدا النبوة ، وخصال هارون الأخرى هي الاجتباء والعصمة والوزارة والشراكة في الأمر لقوله تعالى ( واجعلي لي وزيرا من أهلي ، هارون أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ) .
لكنه الحسد وما أدراك ما الحسد ذلك الذنب الأول الذي عصي به الله في السماء حين حسد إبليس آدم والأول الذي عصي به في الأرض حين حسد قابيل أخيه هابيل ، ولم يسلم من أذاه نبي ولا وصي نبي حيث قال الله تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) ، ومن يراقب ما يحدث في هذه الأيام يدرك بأن أيام إلقاء الشيطان بين هذه الأمة قد أوشكت على الأفول وجاءت أيام النسخ والاحكام بقرب خروج الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف .
ولكي تعرف من هم المحسودين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
ذكر السيوطي في الدر المنثور في تفسير هذه الآية ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة واتيناهم ملكا عظيما ) ، حيث أورد هذه الرواية : أخرج ابن المنذر والطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله { أم يحسدون الناس } قال: نحن الناس دون الناس أي آل محمد ، ومن تابع السيرة والأحداث منذ وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما جرى على آل محمد ابتداء من ابنته الزهراء عليها السلام التي مضت مضطهدة مقهورة حتى عف قبرها ولا يدرى أين هو ، وما جرى على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب هارون هذه الأمة عليه السلام مرورا بولده الامام الحسن الزكي عليه السلام وما جرى على أخيه الامام الحسين من لوعة ومأساه عظيمة شاب منها الصغير ، وما جرى على باقي الآل من سم ومطاردة وتضييق يدرك بأن المحسودين في الآية الشريفة هم آل محمد . وهذا ما يتناسب مع وصية الرسول بأهل بيته خيرا حتى كررها ثلاثا ، والوصية بمحبتهم كما جاء في كتابه الكريم ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ، وتحذير الصحابة في عدة مناسبات من كراهيتهم للإمام علي عليه السلام والوقوف ضده كما جاء في رده على الصحابة الذين اشتكوا عليا بعد رجوعهم من اليمن قائلا ( ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي ) . الحديث صحيح على شرط مسلم كما صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال بذلك العلامة الألباني . فانتبه أخي السني واحذر أن تكون ممن حسدهم فيكون خصمك شفيعك يوم القيامة .
بقي سؤال قد يسأله آخي العزيز السني .. من هم آل محمد الذين أمرنا الله تعالى باتباعهم والدعاء لهم ؟
هذا ما سنجيب عليه في الحلقة الآتية إن شاء الله تعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق